مشكلة الشغف في العصر الحديث

مشكلة مفهوم الشغف بالمعنى المعاصر

في العقدين الأخيرين، أصبح مفهوم الشغف جزءًا أساسيًا من لغة الثقافة المعاصرة. يُستخدم الشغف للإشارة إلى النشاطات التي تثير الحماس والمثابرة، سواء في العمل أو الهوايات أو حتى العلاقات الشخصية. لكن، على الرغم من الانتشار الواسع لهذا المصطلح، إلا أن هنالك العديد من الإشكاليات المرتبطة به، والتي قد تُحرف معناه الحقيقي أو تُسهم في تعزيز مفاهيم غير واقعية تؤدي إلى مشاعر القلق وعدم الرضا.

1. الشغف والعمل: بين الحب والضغط النفسي

في السياق المعاصر، يُعتبر الشغف بالمهنة أو العمل من أهم العوامل التي تؤدي إلى النجاح. يشير العديد من المؤلفين والمدربين الشخصيين إلى ضرورة أن “تسعى وراء شغفك” لتحقيق التفوق الشخصي والمهني. لكن في الواقع، قد يؤدي هذا التصور إلى مشاعر ضغط نفسي شديدة. من خلال إصرار المجتمع على ربط النجاح بالعمل الذي يُثير شغف الفرد، قد يُعاني العديد من الأشخاص من الشعور بالفشل إذا لم يستطيعوا العثور على مجال يناسبهم بشكل مثالي.

في هذا السياق، يُنظر إلى الشغف كشرط ضروري لتحقيق النجاح، مما يخلق نوعًا من التوقعات المبالغ فيها التي قد تكون غير قابلة للتحقيق. فعندما لا ينجح الشخص في العثور على عمل يشبع شغفه، قد يُشعر بالإحباط أو القلق المستمر بشأن حياته المهنية.

2. الشغف كعبء عاطفي

تعتبر العلاقة بين الشغف والنجاح عاطفية للغاية في الوقت المعاصر. فالكثير من الأشخاص، خصوصًا من جيل الشباب، يشعرون أنهم مُطالبون بتحديد “شغفهم” بشكل قاطع منذ وقت مبكر في حياتهم، مما قد يؤدي إلى الضغط النفسي الذي يعيق الإبداع أو الاستمتاع باللحظة الحالية. يظهر هذا بوضوح في عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يُتوقع من الأفراد أن يكونوا “شغوفين” بما يفعلونه، سواء كان ذلك عبر مشروعاتهم الشخصية أو في مجالات العمل التي يمارسونها.

وبالحديث عن هذا العبء العاطفي، تزداد الصعوبة عندما نضع في الحسبان فكرة أن مفهوم الشغف يختلف من شخص لآخر. قد يجد البعض متعة في عمل روتيني أو مجال يبدو عاديًا للبعض الآخر. لكن فكرة أن كل شخص يجب أن يكون لديه شغف قوي وفريد قد تجعلهم يشعرون بأنهم أقل قيمة أو غير مُكتملين إذا لم يستطيعوا تحديد هذا الشغف بوضوح.

3. الشغف والموارد الاقتصادية: فخ الموازنة بين الأمان والمثالية

من جهة أخرى، يطرح الشغف مفهومًا غير واقعي فيما يتعلق بالموارد الاقتصادية والفرص المهنية. فالسعي وراء شغف الفرد قد لا يتناسب دومًا مع متطلبات الحياة العملية أو مع الواقع الاقتصادي الذي يعيشه العديد من الأشخاص. في بعض الأحيان، قد يكون العمل الذي “يشبع” شغف الإنسان غير مُجدي من الناحية المالية أو مستقرًا بما فيه الكفاية لتلبية احتياجات الحياة اليومية.

علاوة على ذلك، قد يتسبب التأكيد المستمر على فكرة الشغف في تعزيز الانفصال بين أولئك الذين لديهم القدرة على متابعة شغفهم بشكل دائم، وأولئك الذين يضطرون للتركيز على البحث عن استقرار مالي في مجالات أخرى. هذه الفجوة بين الأفراد الذين يستطيعون ممارسة شغفهم والذين يواجهون صعوبة في ذلك قد تُعمق مشاعر الانعزال الاجتماعي، وتؤدي إلى تقليل فرص التكافؤ الاقتصادي.

4. الشغف والمقارنة الاجتماعية

إن أحد أبرز التحديات التي يرتبط بها مفهوم الشغف في العصر المعاصر هو المقارنة الاجتماعية. في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، يُعرض العديد من الأشخاص حياتهم المهنية والشخصية بشكل يبرز إنجازاتهم المرتبطة بشغفهم. هذا يُؤدي إلى أن يشعر المتابعون بضغوط متزايدة لتكرار نفس الإنجازات أو البحث عن الشغف الذي يجعلهم يشعرون بتحقيق الذات. إلا أن هذه الصورة المثالية تُشوه الواقع، حيث إن معظم هذه القصص هي جزء من السرد الشخصي الذي يتم انتقاؤه بعناية.

قد يُسهم هذا الواقع الاجتماعي في الشعور بالإحباط عند الأفراد الذين لا يستطيعون أن يكون لديهم نفس الدوافع أو النجاحات التي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعلهم يشعرون باليأس أو القلق بشأن مسارهم الشخصي.

5. التحول من الشغف إلى الاستقرار: النظر إلى أفق أوسع

في النهاية، تكمن إحدى أبرز المشكلات في أن الشغف لا يُعتبر أبدًا ثابتًا. فهو مفهوم ديناميكي، يتغير مع الوقت ومع الظروف الحياتية. ما يُثير شغف شخص في مرحلة ما من حياته قد يتغير تمامًا مع مرور السنوات. ولذلك، قد يؤدي التركيز المُفرط على “الشغف” إلى تقليل قدرة الفرد على التكيف مع التغييرات الحياتية والتطورات الطبيعية التي تحدث مع مرور الوقت.

من هنا، تبرز أهمية إعادة النظر في مفهوم الشغف ليكون أكثر مرونة. فبدلًا من رؤية الشغف كهدف ثابت يجب الوصول إليه، يمكن النظر إليه كمحفز يمكن أن يأخذ أشكالًا مختلفة مع مرور الوقت. قد يتحقق الإبداع والتفوق في أوقات قد لا يكون فيها الشخص متحمسًا بشكل مفرط، بل أكثر استقرارًا ومرتاحًا.

6. الشغف والرفاهية النفسية

من المهم أيضًا أن نفكر في الرفاهية النفسية عند التحدث عن الشغف. يُشير بعض الخبراء في الصحة النفسية إلى أن الشغف قد يُؤدي إلى مشكلة الانغماس الكامل في النشاطات المفضلة، مما قد يتسبب في فقدان التوازن بين العمل والحياة الشخصية. هذه الفجوة بين “النجاح المثالي” والراحة النفسية قد تتسبب في مشاعر القلق والإرهاق، حيث يتوقع الأفراد من أنفسهم أن يكونوا متفوقين في كل لحظة من حياتهم.

ومن هنا، تكمن أهمية خلق توازن بين العمل والشغف من جهة، ورفاهية النفس والصحة العقلية من جهة أخرى. يُفترض أن يكون الشغف جزءًا من حياة الشخص وليس هو كل شيء فيها. الحياة المتوازنة تتطلب أكثر من مجرد متابعة الشغف، بل تحتاج أيضًا إلى وقت للراحة والاسترخاء وللتأمل بعيدًا عن الضغوط المجتمعية.

7. الخلاصة: ضرورة إعادة تعريف الشغف

إن فهم الشغف بشكل أوسع وأكثر توازنًا قد يكون الحل لمشكلات كثيرة تتعلق بالصورة المثالية التي يُروج لها في المجتمع المعاصر. بدلاً من النظر إلى الشغف كهدف يجب الوصول إليه بأي ثمن، يجب التفكير فيه على أنه جزء من التجربة الإنسانية المتغيرة. وفي هذا السياق، يصبح الشغف ليس فقط هو الدافع لتحقيق النجاح، بل هو أيضًا فرصة لاستكشاف الذات وإيجاد معاني جديدة في الحياة بعيدًا عن المعايير المجتمعية المفرطة.

إن الوقت قد حان لإعادة التفكير في مفهوم الشغف، وإدراك أن الطريق إلى النجاح قد لا يتطلب دائمًا الإيمان المطلق بهذا المفهوم، بل يتطلب فهمًا واقعيًا لاحتياجات الشخص النفسية والعاطفية، مع الحفاظ على التوازن بين الشغف والراحة.